الأدب الإسلامي

 

 

الناس والفشر

(1/2)

 

بقلم : أديب العربية معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز عبد الله

الرياض ، المملكة العربية السعودية

 

 

        الفشر كلمة عامية كما تبين لي بعد مراجعة المعاجم لها معناها المحدد فيما تستعمل له، وأول ما سمعتها في مصر عندما ذهبنا طلابَ بعثة للجامعات هناك، وأَخَذَت مكانها في أذهاننا، وبدأ معناها يتحدّدّ بدقة حسب حوادث الفشر التي نمر بها، ولكل جديد لذة، فكان لهذه الكلمة لذتها عندنا لجدتها، وطرافتها التي جاءت مما تستعمل له.

        ولم أجد عندنا كلمة في نجد على الأقل تعادلها(1)، وأقرب كلمة لها في الفصحى هي الكذب، ولكن الكذب يشمل كل ما هو غير صحيح، أما هذه فلا تعني إلا الكذب الذي يضخِّم صغيرًا، أو يصغر ضخمًا، أو يُصور وجود شيء لا يمكن أن يكون، أو حادثًا لايمكن أن يحدث، أو عملاً فوق طاقة البشر، أو وصفَ حيوان لا وجود له من صفاته ما يدهش.

        هذه بعض دلائل الفشر، ولهذا فمجاله أضيق من الكذب، ويزيد عنه ويختلف في أنه يصاحبه طرافة، وتحيط به متعة في الغالب، وحتى إذا علمتَ أن ما يقال وفي الغالب تعلم كذبٌ فأنت تتطلع إلى أن تسمع الحديث حتى نهايته، وربما تستعيده من قائله، وترويه قائلاً له فيما بعد.

        وكما قلت فالقواميس لا ترد فيها كلمة «فشر» بهذا المعنى، وأقرب صورة لفظية لها في المعاجم الأساسية القديمة هي كلمة: فشخ، وقيل فيها إن الفشخ هو اللطم والصفع في لعب الصبيان، وقيل الكذب فيه أي في اللغة، وهذه أقرب الكلمات في معناها للفشر الذي نصفه.

        وفشخ الصبيان في لعبهم فشخاً أي كذبوا وظلموا، والفشر فيه كذب لأنه خارج الحقيقة، ولأنه إما زائد عليها، أو قاصر دونها، وقال صاحب القاموس إن الفشار تستعمله العامة بمعنى الهذيان وكذلك التفشير وليس في كلام العرب.

        واعترفت المعاجم العربية الحديثة بالكلمة العامية، وأدرجتها ضمن كلماتها، ومن ضمن هذه المعاجم: «المعجم العرب الأساسي» الذي أصدرته المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، وقال عن كلمة فشر:

        «فشر يفشر فشرًا، فهو فاشر وفشّار، بمعنى كَذَب وادعى باطلاً. وفشار: كذاب مبالغ في كذبه، وجمعها فشارون». وبعد:

        فما هو الفشر في مدلوله، وما يمكن وراءه؟

        إذا كان الكذب تحكمه ناحية نفسية، تدفعه بقوتها إلى أن يتشكل طوع صاحب الكذب، وما في داخل نفسه من هدف، فكذلك الفشر تحكمه ناحية نفسية، قد تكون مركب النقص بصورة أو أخرى، أو رغبة في صيد إعجاب الآخرين، وكسب مودتهم؛ ومركب النقص قد يكون لملء فراغ في النفس، كأن يكون صاحبه خالياً مما يجعله مرموقاً في مجتمعه، فيحاول أن يعوض بادعاء أعمال بطولة لم تحدث، أو أن يكون منزوياً في دائرة مظلمة فيجد أن زاوية الضوء تكمن له في الفشر، الذي سوف يلفت إليه الأنظار، وهناك أناس في التراث ثبت أنهم كانوا فشارين، واستطاعوا بهذا أن يلفتوا إلى أنفسهم الأعين، ويديروا إلى أنفسهم الرؤوس، ويصبحوا حديث الناس هم وأحاديثهم، ولم يكتف الأدباء بسماع ذلك منهم، بل أثبتوه مبيّنين طبيعته، وأنه فشر؛ وأحيانًا قبلوه على أنه حقيقي، ونحن الذين، بما عرفناه من علم، لا نقبله إلا أنّهُ فشر، والعقل يعضدنا.

        ولعل من أقرب قصص الفشر عند العرب القصة الآتية:

        «قال أبو حيّة النّميري وكان كذّابا عنّ لي ظبي، فرميته، فراغ عن سهمي فعارضه والله السهم؛ فراغ، فراوغه السهم، حتى صرعه ببعض الخبارات».

        وقال في قصة أخرى:

        «رميت ظبية، فلما نفذ السهم ذكرتُ بالظبية حبيبةً لي، فشددت وراء السهم، حتى قبضت على قُذَذِه»(2).

        لا أحد يشك في أن هذا فشر، وأنه كذب مضخم، خارج عن حدود ما يقبل، ومع هذا فأبو حيّة يرويه جادًا، ومجتمعه يراه مسلّيا، وهو يؤرخ لعقل وجد في ذلك الزمن، وله أمثلة في أزمنة أخرى.

        وأبو حية في خياله سبق الصواريخ الموجهة التي تذهب بعيداً، وهي في طريقها تحيد عما يعترض طريقها يمينًا ويسارًا، وإلى أعلى وأسفل، حتى تصل إلى هدفها، وكأن في داخلها عقلاً بشريًا يدبرها، كما فعل سهم أبي حية. وسبق خياله الصواريخ المناورة للطائرات التي تتبعها أين اتجهت، وتناورها أين ذهبت، حتى تصيبها.

        وأبو حية استفاد من ثقافته الأدبية، فلقد علم أن أحد مجانين العشق العذري أطلق ظبية من شبكة كان نصبها، لأن الظبية أشبهت حبيبته، فاستعاد أبوحية الصورة الجميلة من مخزونه الأدبي، ولكنه أضاف إليها شيئًا من فنه الذي انفرد به، وخياله الذي تخصص فيه؛ فلم ينصب شركاً للظبية، ولكنه أرسل سهماً، وهذا أتاح له أن يكمل القصة على طريقته، ولقد كانت سرعته فائقةً إلى الحد الذي تعدّى خياله فيه خيال «أبي لمعة»، وهو يفشر على الخواجه «بيجو».

        وكان أبو لمعة في إحدى حلقات برنامجه المشهور «ساعة لقلبك»، متجلياً في جلسة من جلسات الفشر التي جعلت «خواجه بيجو» يفغر فاه من الدهشة، وهذا الفشر كان مركزًا على السرعة، فادعى أبو لمعة أنه يوماً من الأيام كان مسرعًا بسيارته، ودار على الميدان بسرعة فائقة، إلى حدّ استطاع معه أن يقرأ رقم لوحة سيارته الخلفي!(3).

        وأبو حية وأمثاله سُرُج فكاهة مضيئة في مجتمعهم، يجد الناس في الاستماع إليهم راحةً، رغم أنهم يعرفون أنهم يكذبون، ولا أنسى شخصًا معاصرًا، شكله محترم، ونطقه رزين، ويشارك بوجاهة في المناسبات الاجتماعية، ولكن له جانباً ممعنا في الفشر، يعرفه أصدقاؤه ومجتمعه؛ وإذا ما التفّ جمعهم في إحدى الأمسيات، وحضر مجلسهم، «نبشه» أحدهم، وسأله عن جلسته في البر وحده، والضيوف الذين جاؤوا لمؤانسته.

        ويبدأ يروي قصةً خياليةً، عناصرها مجمعة من هنا، وهناك، تنتهي صورتها إلى أنه وهوقاعد يحمس القهوة، ويهيء أكله، حضرت عنده ذئاب، ثم لما دنت سلمت، ثم أقعت أمامه، وجاذبته الحديث، والحديث يزيد وينقص في كل مرة يروي الرواية، ولا هو يتراخى في الاستجابة لطلب قص القصة، ولا أصدقاؤه وجلساؤه يملون طلبها، والإِلحاح في ذلك.

        وليست هذه القصة الوحيدة، فهناك قصص أخرى فيها إنجاز متخيل، ونخوة مُدَّعاة، وما إلى ذلك من فشر لا يحده حد، ولا يقف في طريقه شيء.

        ويأتي الفشر أيضاً من التراث، مصورًا مصدرًا من مصادر التسلية، المركبة على الخيال الجامع، ولكنه لايخلو من صورة جمال أخاذ، قد تغلب فيما تدخله من سرور الحقيقة، ومن أمثلة ذلك الرواية الآتية:

        «قال رجل من آل حارث بن ظالم مشهور بالكذب :

        والله لقد بلغني أن الحارث غضب يوماً، وانتفخ في ثوبه، فندر من عنقه أربعة أَزْرَار، ففقأت أربع أعين من أعين جلسائه»(4).

        إن الأزرار لسلاح طريف، لم يعرف عنه من قبل، ولا ندري ما حدث للمغضوب عليه أو عليهم، وربما كانوا هؤلاء الأربعة أنفسهم الذين نالوا جزاءهم على إغضاب هذا الرئيس الخطير، ولا يستبعد أن تكون الأَزرار تأتمر بأمر الحارث، وتعرف رغبته، ولهذا انطلقت إليهم، لها أزيز وحفيف!

        ويبدو أن الفُرْس لهم فشر هم أيضاً، ولعل المجد الذي كان لملوكهم؛ والذي كثيراً ما ضخموه، وأضفوا عليه من الرونق، ما جعل تاريخهم فيه كثير من الوضع والتوليد، لم يكفهم، فأخذوا يركبون على ملوكهم ما لا يقبله العقل، ومن هذا النوع القصة الآتية:

        «يقال: إن مما فضل به كسرى أن مِنْطَقَته كانت ستة عشر شبرًا، وجيبه كان سبعة أشبار، وكان يأكل كل يوم مهرًا مشوياً من الخيل، وعناقاً زرقاء حمراء، مغذاةً بألبان النعاج، يذبحان بسكين من ذهب، ويسجر له التنور بالعود حتى ينتهي منتهاه، ويسمط ما يسمط بالخمر المغلي بالمسك، ويطلى بالعنبر والمسك والملح، ويعلق في سفّود من ذهب، ورياحين من ذهب، وسكين من ذهب، فإذا برد حمل ووضع على خوان من ذهب، فيه أربعة آلاف دينار.

        ويقدم إليه، فيتناول منه ما أحب، ثم يتحف به من أحب من ندمائه، ويكسر التنور، ويجدد كل يوم مثله، وكان له في كل يوم لون ينفق عليه أثنى عشر ألف درهم، يخرج لؤلؤةً صفراء قد شريت باثنى عشر ألف درهم، وتستحق في ذلك اللون، يتداوى به..»(5).

        والفشر عن ذلك لم ينته، وما بقي منه فهو مثله في الأغراق في الخيال، والبعد عن الحقيقة، واكتفيت منه بما مرّ، وفيه الكفاية.

        وهذا الفشر الفارسي تعدى الحدود، فقد أدخل كسرى في حدود مقاسات عوج بن عنق، فلنا أن نتصوّر وسط كسرى وعرضه ستة عشر شبرًا، ولم يعد خصره بهذا يسمى خصرًا؛ بل جذع شجرة معمّرة، ثم جيبه وسعته سبعة أشبار، فهل جيبه في ثوبه، أو أن كسرى وثوبه في الجيب. وهذا يذكرنا بموقف «معاوية بن أبي سفيان» رضي الله عنه مع «ربيعة بن عِسْل»، أحد بني عمرو بن يربوع، عندما قال ربيعة لمعاوية: «هَب لي مئة ألف جذع لداري». قال معاوية: فدارك في البصرة، أو البصرة في دارك؟!(6).

        وحاول الفشار الذي جاء بهذا الوصف عن كسرى ألا يترك شيئًا ضخماً أو ثمينًا إلا جاء به، ووضعه ضمن وجبة غداء كسرى، فاللحم مهر، ولولا أن لحم ابن الفيل، ولحم فصيل الناقة لا يصلحان للملك لكان جاء بأحدهما.

        وأثمن الجواهر والمعادن أدخلهما في أماكن قد لا تصلح لها، فالسكين مثلاً إذا كانت من ذهب، فهي حتما لا تقطع، لأن الذهب لين، ولا يصلح أن يأتي منه حد يقطع حنجرة المهر، ولا أدري هل في الوجود عناق زرقاء حمراء، حتى تُغْذَى بألبان النعاج، فإن كان المقصود بالنعجة الشاة، فمن الطبيعي أن ترضعها العناق لأنها أمها، وإن كان المقصود النعامة، فلا ثدي للنعامة!

        ثم ما قيمة عود البخور حتى تميز ناره، إلا إذا كان القصد الرائحة، فهذا معقول، وكان يكفي جزء صغير منه، حتى يعطي الرائحة المطلوبة، ويقضي على ما قد يكون هناك من رائحة الزفر والشحوم.

        وطلاء اللحم بالعنبر والمسك ليس ميزةً بحال من الأحوال، لأن الاثنين من المرارة بحيث يجعلان الطعم غير مقبول، بله لذيذ، وجزى الله الفشار خيراً إذْ لم ينس الملح المسكين، فأشركه في الأمر إشراكاً على الهامش والحاشية، وكان تعوَّد أن يكون له مقام محمود بارز على مائدة العامة، لكنه هنا رضي أن يكون مذكوراً ذكرًا متواضعاً على مائدة كسرى، وهذا خير له من أن ينسى البتة.

        ثم ما هذا البطن الذي سوف يتحمل كل هذه الوليمة، وهذه الأبازير الثقيلة البغيضة الطعم، الغالية الثمن! خاصة وأننا لم نر شيئًا ذُكِر غير اللحم، ولا يعقل أن لا يأكل كسرى إلا اللحم، إلا إذا كانت هذه عادة الموسرين عندهم!

        ثم هذا البطر والإسراف في كسر التنور كل يوم وصنع جديد، ليستعمل لمرة واحدة فقط، ولعل البطر والإِسراف هو المقصود في كل ما ذكر، وإلا فلِمَ يظهر غِنَى كسرى وثراؤه، واستهانته بالمال؟

        ولم نسمع عن لؤلؤ أصفر، ولكن عِلْمَنَا في هذه الأمور محدود، وقد يكون هناك لؤلؤ أصفر وأحمر، وهذا يبطل ما تعودنا أن نصف به أسنان الفتاة الجميلة بأنها عقد من اللؤلؤ؛ ولم نكن نقول: اللؤلؤ الأبيض، لأن اللؤلؤ في عرفنا لا يكون إلا أبيضًا!

        ولو دخل القوم في مسابقة فشر لأخذ صاحب هذا الخبر الفارسي قصب السبق، ونال الجائزة بحق.

        ويبدو أن الأكل مجال مقبول لأمور الفشر، ويكاد عِظَم الحيوان المذبوح المطبوخ يكون هو المحور الذي يدور حوله الفشر، والقصة الآتية نموذج يتكرر بين آن وآخر في قصص صحراء العرب، مما يزخر به التراث:

        يقول الثعالبي: قال الأصمعي: عن معتمر بن سليمان، عن أبيه قال:

        قلت لهلال بن الأسعر: ما أكلة بلغتني عنك؟

        قال: نعم، جعتُ جوعةً وأنا على بعيري، فنحرته وأكلته إلا ما حملت على ظهري منه»(7).

        والجمل ليس حيواناً صغيراً يمكن أن يتصور أن تحتوي عليه معدة إنسان؛ إن معدة الجمل يمكن أن يجلس فيها الإِنسان إلى نصفه! ولا يخفف فشر هلال ما قال إنه حمل منه على ظهره، فلا يمكن أن يحمل جزءًا منه في بطنه وجزءًا على ظهره! والفشر هنا ظاهر ظهور الشمس في رابعة النهار في يوم صيف.

        والكتاب مغرمون بتعليق أخبار معينة على أناس معينين، ممن اشتهروا بأمر ما، وهذا الأمر يدخل ضمن حيز المعقول، إلا أنهم يبدؤون يزيدون ويغالون إلى أن يدخل ما يصلون إليه ضمن المستحيل.

        وهلال بن أسعر قيل عنه أنه قوي وشجاع، وقد يكون ضخم الجثة، وقد يكون أكولاً في حدود ما يُسمح بتصوره لرجل ضخم وقوي، إلا أن ما يذكر عنه زاد عن الحد.

        وليست هذه هي القصة الوحيدة عنه، فهناك قصة أخرى، فيها من المغالاة ما يؤكد أنها تدخل في الفشر الذي نتكلم عنه، والقصة يرويها صاحب عيون الأخبار:

        «قال الأصمعي:

        دعا عبّادُ بن أخضر هِلالَ بن أسعر إلى وليمة، فأكل مع الناس حتى فرغوا؛ ثم أكل ثلاث جفان تُصنع كل جفنة لعشرة أنفس، فقال له: شبعت؟

        قال: لا.

        قأتوه بكل خبز في البيت، فلم يشبع؛ فبعثوا إلى الجيران، فلما اختلفت ألوان الخبز علم أنه قد أضرّبهم فأمسك.

        فقالوا: هل لك في تمر شهريز(8) بلبن؟

        فأتوه به، فأكل منه قواصر(9)، فقالوا له: أشبعت؟

        قال: لا.

        قالوا: فهل لك في السويق؟

        قال: نعم.

        فأتوه بجراب ضخم مملوء.

        فقال: هل عندكم نبيذ؟

        قالوا: نعم.

        قال: أعندكم ثور(10) تغتسلون فيه من الجنابة؟

        فأتي به، فغسله، وصب السويق، وصب عليه النبيذ، فمازال يفعل ذلك حتى فني»(11).

        وواضح أن مركب الخبر على هلال فشار خبير في أمور الطبخ والأكل، ولكنه أخفق أن يخفي التلفيق في كل ما ذكره، أو أن يقرب الأمر من المعقول والقبول.

        والمتصور لأكبر بطن عرف عنها الشرهُ يمكن أن يقبل أكل جفنة أو جفنتين، أما الإِضافات الأخرى فهي فشر وخيال بلاشك، وهل يعقل أن تكون معدة رجل واحد أكبر من معدة ثلاثين، مضافاً إليهم مثلهم، إذا أضفنا إلى الجفان ما جاء بعدها.

        وفي أثناء الأكل، وبعد أن عرف أن أهل البيت بدؤا يستعينون بجيرانهم، ويطلبون نجدتهم، أمسك عن الأكل؛ والمتوقع أن يفرح أهل البيت بذلك، لا أن يحاولوا أن يشجعوه على زيادة الأكل، ويغروه بما يفتح شهيته من جديد، مرات ومرات.

        ولقد نسي القاص «التناش» الفشار، أن جميع ما ذكر في الخبر بالتفصيل جاء بعد أن أكل هلال مع المدعوين، والمفروض أنه قطع مرحلةً من الأكل، قبل أن تأتيه الزيادات التي تمثل وليمةً أخرى كاملةً.

        ولكن يبدو أن الفشار أعجبه الأمر، وبدأ به فلم يرد أن يتركه، حتى يجعل لكل نوع من الطعام نصيبه الوافي من معدة هلال، التي أصبحت نجمًا من نجوم الوضع والنحل والتدليس.

        وفرح الفشارون أن يجدوا شخصاً مثل هلال يعلقون عليه طموح خيالهم، ويدهشون السامعين والقارئين، ويسرون الوراقين، الذين في انتظار المزيد مما يطلب في سوق الكتب، وفي دنيا الأدب، وهذه قصة أخرى عن كثرة أكله:

        حدث صدقة بن عبيد المدني قال:

        «أولم عليّ أبي لما تزوجت، فعملنا عشر جفان ثريدًا من جزور، فكان أول من جاءنا «هلال بن أسعر المازمني»، فقدمنا إليه جفنةً فأكلها، ثم أخرى ثم أخرى، حتى أتى على العشر، ثم استسقى فأتي بقربة نبيذ، فوضع طرفها في شدقه، ففرغها في جوفه، ثم قام فخرج، فاستأنفنا عمل الطعام»(12).

        المعروف أن الطعام لا يقدم إلا بعد أن يجتمع المدعوون، ولكن يبدو أن خيال الفشار سبق في تصوره دعوات اليوم الأوروبية، التي تعمل على الطريقة المسمامة «بوفيه» وبهذا يحق لنا أن نقول إننا سبقنا الغرب في هذا أيضًا!

        ولهلال هذا ترجمة في الجزء الثالث من الأغاني نشر دار الثقافة، وفيها قصص أخرى مما يروى عن كثرة أكله وقوته.

        وقد يصرخ بطل شجاع فيغمى على شخص يعرف مدى شجاعته، ومدى ما يأتي منه إذا صرخ، أما الحيوان فلا يخرج عن غريزته، وما تمليه عليه طبيعته، ولهذا لما قيل، فيما يروى لعنترة: دونك الثور الهائج فاستقبله، قال: من يعرّف الثور أني عنتر، وهذا القول ينطبق على قصة الفشر الآتية:

        عن الأصمعي عن خلف الأحمر قال:

        «كان أبو عروة السباع(13) يصيح بالسبع، وقد احتمل الشاة، فيسقط، فيموت، فيشق بطنه، فيوجد فؤاده قد انخلع، وهو مثله في شدة الصوت.

        قال الشاعر:

زَجْر أبي عروة السباع إذا

أشفق أن يلتبسن بالغنم(14)

        وليس هذا الأسد في سيرك فنقول: إنه مدرب ومعلم على الطاعة، يخضع للقول، ويستخذي للصراخ؛ ولم يقتصر على أن الأسد يحجم عن أخذ الشاة وافتراسها، أو يتركها عند الصرخة لحالها، ويذهب لسبيله. لا، إنه يموت رعباً، وينخلع قلبه من مكانه هلعًا. أن يقف القلب فهذا إلى حد ما مقبول، والعوارض التي توقف القلب كثيرة، أما أن يسقط من «معاليقه» فهو الشيء الذي نرجو من الأطباء أن يسامحوا الأدباء فيه، وليعتبروها فلتةً من فلتات الفشر، وهم مدعوون معنا للاستمتاع بهذه الصورة الطريفة!

        ويأتي الخيال محلقاً في فشر متناهٍ، يلهث التصور خلفه، ليرسم له الشكل المراد، ليعرض على العقل الذي لن يجامل أو يحابي فيقبله، بل إنه سوف يرفضه رفضاً باتاً، ويسمه بسمته الحقيقية، ويقول عنه إنه فشر واضح، أو أن أبا علقمة أحسّ من القرشي رغبة استهزاء به، فأحب أن يجاريه ويزيد عليه.

        ومما يجعلنا نعتقد أن أبا علقمة كان جادًا في قوله، ومعتقدًا فشره، أنه رجل غريب في تصرفه، منتقد فيما يقول أو يفعل، ولهذا لا يستغرب منه أن يقول مثل هذا القول ويعنيه. وهذه هي القصة:

        رأى رجل(15) أبا علقمة على بغل مصري حسن، فقال له:

        إن كان مَخْبَر هذا البغل كَمَنْظَرِه فقد كُمَل.

        فقال أبو علقمة: والله لقد خرجت عليه من مصر، فتنكبت الطريق مخافة السُّرَّاق، وجور السلطان، فبينا أنا أسير في ليلة ظلماء، قتماء طخباء، مدلهمة حِندسٍ داجية، في ضحضح أملس، وإذا حِلْس نبأة قُعَر (طائر)، أو طيران صوع، أو نفض سيد، (ذئب)، فماص عن الطريق متنكبًا بعزة نفسه، وفضل قوته، فبعثته باللجام فعسل (أسرع)، وحرّكته بالركاب فنسل؛ وانتعل الطريق يغتاله معتزماً، والْتَحَفَ الليل لا يهابه مظلمًا، فوالله ما شبهته إلا بظبية نافرة، تحفزها فتخاء (حمامة أو نعامة)، شاغبة.

        فقال الرجل: يا هذا، ادع الله واسأله أن يحشر هذا البغل معك يوم القيامة..»(16).

        وهذا خيال محدود، أما فشر أبو علقمة الذي أشرنا إليه فهو ما تمثله القصة الآتية:

        «قال الهيثم بن عدي:

        ركب أبو علقمة النميري بغلاً فوقف على أبي عبد الرحمن القرشي، فقال (القرشي):

        يا أبا علقمة، إن لبغلك هذا منظراً، فهل مع حسن هذا المنظر من خبر؟

        قال: سبحان الله! أو ما بلغك خبره؟

        قال: لا.

        قال: خرجت عليه مرةً من مصر، فقفز بي قفزةً إلى فلسطين، والثانية إلى الأردن، والثالثة إلى دمش.

        فقال: له أبو عبد الرحمن: تقدم إلى أهلك يدفنوه معك في قبرك..»(17).

        إن هذا طائر، وليس ببغل، وإن الأرض لتطوى له؛ ولا ندري لِمَ جعل الطريق ثلاث خطوات، وأوجد محطة في المنتصف، ولِمَ لم يجعل في مصر رِجْلاً، والأخرى في دمشق؟ لعل هذا تُرِك لوالد هذا البغل، ليمتاز عن ابنه.. وأبو علقمة أعرف بالحقيقة!

        هذا الفشر في بلاد العرب مدنها وصحرائها، وهناك فشر يأتي إلينا من وراء النهر، حيث الثلج، والصقيع، وفي القصة التالية نموذج لذلك.

        «عن محمد بن الحسين الهمذاني وليس بالمُرْضِي قال: كان عندنا بهمذان برد شديد، وكان على سطحنا مَرْيٌ في آنية، فانكسرت الآنية، وانصب المري على السطح، فجمد حتى صار مثل الجلد، فقطعت منه خفين، ولبستهما، وركبت به إلى دار السلطان!»(18).

*  *  *

الهوامش:

(1)          إلا كلمات محلية: نتش، هجص، فلت، هفت.

(2)          عيون الأخبار: 2/33.

(3)          ويغلب أعرابي ابا لمعة حين يقول: «ولو ترسل الربح جئنا قبلها» الكامل للمبرد: 2/1012.

(4)          البصائر: 2/163، وربيع الأبرار: 2/36.

(5)          البصائر: 2/80.

(6)          البيان والتبيين: 2/260.

(7)          مجالس ثعلب: 2/464، الأغاني: 3/65.

(8)          شهريز اسم مكان، وتمره ضرب من التمر ينسب إليه، مشهور.

(9)          القواصر: جمع قوصره، وهو وعاء للتمر من قصب.

(10)      إناء كبير من نحاس أو حجر.

(11)      عيون الأخبار: 3/249، الأغاني: 3/65.

(12)      الأغاني: 3/66، ترجمة: هلال بن الأسعر.

(13)      انظر: لسان العرب «عرا».

(14)      عيون الأخبار: 1/282.

(15)      في معجم الأدباء: 12/207 سماه الهيثم بن عدي: أبا عبد الرحمن القرشي.

(16)      معجم الأدباء: 12/214.

(17)      معجم الأدباء: 12/207.

(18)      تاريخ بغداد: 2/239، ترجمة: محمد بن الحسين الهمذاني.

 

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان وشوال 1432هـ = أغسطس- سبتمبر 2011م ، العدد : 9-10 ، السنة : 35